رغم ما يبدو من أن الطبيعه تنطوي في
الحياة اليومية على تشكيلة كبيرة من أنواع القوى ، يمكن في حقيقة الأمر إرجاع أية
قوة إلى احدى قوى عددها
أربع فقط. أكثر هذه القوى شيوعا هي الثقالة ، وقد كانت أول قوة حظيت بنظرية منهجيه
على يد نيوتن .
والثقالة وحدها قوة عالمية شاملة ، أي
انها تفعل فعلها بين كل الجسيمات بدون استثناء . ومنبع الثقالة كتلة الجسيم مهما
كان شأنه . فالثقالة إذن قوة تتراكم فتشتد كلما ازدادت كتلة منابعها ، وهي
باستثناء ظروف دخيلة ، تجاذبية دوما.
يقال إن الثقالة قوة ذات " مدى
طويل " لأنها لا تستطيع أن تفعل فعلها على مسافات محسوسة - في المدى الكوني
واقعيا . وسبب ذلك أن شدتها تتناقص بازدياد المسافة تناقصا بطيئا نسبيا - وبدقيق
العبارة تتناقص متناسبة مع مقلوب مربع المسافة لدى ازديادها . فالقوة الثقالية بين
إلكترون وبروتون ، مثلا أضعف من القوه الكهربائية بينهما قرابة 1040
مرة . ولهذا السبب لا يبدو أن الثقالة تؤدي دورا مباشرا يُذكر في
فيزياء الجسيمات دون الذرية . لكنها على كل حال واحدة من القوى الأساسية الأربع في
الطبيعه ولابد من تدبير مكان لها في أية نظرية توحد في هذه القوى كلها .
إن في الفيزياء مفهوما هاما في توصيف
القوى كلها هو مفهوم الحقل .
كان نيوتن يفهم الثقالة بأنها
"فعل عن بعد" أي بتعبير أوضح أن الفعل الثقالي للجسيم يؤثر مباشرة في
جسيم آخر قافزا فوق المسافة بينهما . لكن الفيزياء الحديثة ترى أن كل جسيم منبع
حقل قوة - حقل ثقالي بصددها ما نحن فيه - يحيط بالجسيم ، والجسيم الآخر يعاني من
جراء وجوده في هذا الحقل ، قوة متناسبة مع شدة الحقل في النقطة التي هو فيها .
ويعزى تناقص شدة الثقالة بازدياد المسافة إلى تضاؤل الحقل تدريجيا لدى الابتعاد عن
منبعه .
وفي عام 1915 استبدل أينشتاين بنظرية
نيوتن الثقالية نظرية النسبية العامه وفي هذه النظرية الحقل الثقالي يفسر بتشوه
الزمكان أو انحنائه أي إنه مفعول من طبيعة هندسية صافية . وهذا التتفسير يعزل
الثقالة عن القوى الثلاث الأخرى .
وفي المحل الثاني ، بعد نظرية نيوتن
الثقالية ، ظهرت القوة الكهرمغناطيسية التي حظيت بأساس نظري . فقد دُرست القوتان
الكهربائية والمغناطيسية ، في التجارب المخبرية بوضوح وكانتا معروفتين من القديم .
لكن الرابطة البنيوية بين الكهرباء والمغناطيسية لم تُكتشف إلا في القرن التاسع
عشر بفضل أعمال فارادي وسواه . عندئذ نجح مكسويل في صوغ مجموعة معادلات وحدت
الاثنين في نظرية " كهرمغناطيسية " واحدة فخطا بذلك أول خطوة على طريق
نظرية توحد قوى الطبيعة .
إن منبع الحقل الكهرمغناطيسي هو
الشحنة الكهربائية . لكن الجسيمات ليست كلها ذات شحنة كهربائية " فالقوة
الكهرمغناطيسية " بخلاف الثقالة ليست قوة عالمية لكنها تشبه الثقالة في طول
مداها - القوتان ، الكهربائية والمغناطيسية ، تخضعان كالقوة الثقالية لقانون
التربيع العكسي . بيد أن القوة الكهرمغناطيسية كما ذكرنا أشد بكثير جدا من الثقالة
لكن وجود نوعين موجب وسالب ، من الشحنات الكهربائية يجعل مفعوليهما الكهرمغناطيسيين
متفانيين عموما في الأجسام المحسوسة أي إن القوى الكهرمغناطيسية لا تتراكم بما
يزيد في شدتها بل يعدل بعضها بعضا ، ولهذا السبب كانت الثقالة أحرى من القوة الكهرمغناطيسية
بالسيادة في المدى الكوني الواسع رغم التفوق الكبير المتأصل في الكهرمغناطيسية .
أما القوتان الأساسيتان الأخريان فلا
يُحس بهما في الحياة اليومية لأن مداهما لا يتعدى الأبعاد دون الذرية . أولى هاتين
القوتين وتدعى النووية الشديدة مسؤولة عن ترابط البروتونات والنترونات معا في نوى
الذرات ، وهذه القوى تتلاشى تماما بعد مسافة من رتبة 10-15 مترا
وقصر مداها يميزها تمييزا حادا عن القوتين، الثقالية والكهرمغناطيسية وليست البروتونات والنترونات وحدها هي التي تحس بالقوة الشديدة
، بل الهدرونات كلها . لكن اللبتونات لا تشعر بها .
إن شكل القوة بين الهدرونات معقد جدا
، لأن كل الهدرونات ليست جسيمات أولية (عنصرية) بل مجموعات كواركات وأن القوة بين
الكواركات هي التفاعل الأساسي . وهذه القوة تشبه ، في جوهرها ، القوة الكهرمغناطيسية
رغم أنها أشد منها بكثير .
وهذا التعقيد ناشئ عن أن القوة
الشديدة بخلاف القوة الكهرمغناطيسية التي هي بين جسيمين مسؤولة عن تماسك ثلاثة كواركات
معا في الباريونات . وهذا يتطلب معالجة أكثر تعقيدا لمفهوم الشحنة . فبدلا من
النوع الواحد للتفاعل بين الشحنات الكهربائية يوجد هنا ثلاثة أنواع من الشحنات من
أجل القوة الشديدة .وهذه المنابع المعروفة باسم الألوان أعطيت الألقاب الاعتباطية
حمراء ، خضراء ، زرقاء .
أما آخر القوى الأساسية الأربع
فمعروفة باسم الضعيفة. إنها تؤثر في الكواركات واللبتونات جميعا ، وبشدة أضعف من
الكهرمغناطيسية، لكنها أشد بكثير من الثقالة .
وتتجلى القوة الضعيفة رئيسيا من خلال
تدخلها في التحولات الجسيمية أكثر من ظهورها كقوة جاذبة أو دافعه مباشرة .
لقد طُرحت هذه القوة في البدء لتغيير
التفكك البيتاوي وهو ضرب من النشاط الإشعاعي تبديه بعض النوى الذرية القلقة .
ونموذج هذا النشاط تحول النترون إلى بروتون وإلكترون ونترينو مضاد . وهذه العملية
التي تقودها القوة الضعيفة تتمثل بتغير نكهة الكوارك ففي حال النترون مثلا يتحول
أحد كواركية السفليين إلى كوارك علوي .
والقوة الضعيفة قادرة على تغيير نكهة
الكواركات واللبتونات كليهما . ففي حالة اللبتونات يمكن للإلكترون أن يتحول إلى
نترينو وهكذا !
لا تخضع النترينوهات إلا للقوة
الضعيفة ( بالإضافة إلى الثقاله طبعا ) وعلى هذا فهي زاهدة جدا في التفاعل ،
ومعروف أن النترينو يستطيع أن يقطع عدة سنين ضوئية في رصاص صلب قبل أن يتوقف ، ومع
ذلك يمكن اصطياد نترينوهات كثيره من الاندفاعات الغزيرة التي تصدر عن الكوارث التي
تطرأ على النجوم وهي في النزع الأخير قبل الموت.
ففي كل واحدة من مجرات هذا الكون
ينفجر نجم كل بضعة عقود من السنين وفي القرون الماضية شهد سكان الأرض عدة انفجارات
من هذا القبيل وقد رئي آخرها سديم ماجلان ( وهي مجرة صغيره قريبه منا ) في ربيع
عام 1987 وكان واضحا من الأرض .
.إن مدى القوة الضعيفة قصير لدرجة بالغة . فعندما اتضحت هذه القوة
أول مرة كان المظنون أن التفاعلات شبه نقطية لكن المعروف اليوم ان مداها لا يتعدى
قرابة 10 -17 متر.
المصدر كتاب : الأوتار الفائقة نظرية لكل شيء .
إعداد : بول ديفيس - جوليان براون .
ترجمه : د. أدهم السمان .
ليست هناك تعليقات :